فصل: فَصْلٌ: (الثَّانِيَةُ طَائِفَةٌ أَشَارُوا عَنْ مَنْزِلٍ وَهُمْ فِي غَيْرِهِ وَوَرُّوا بِأَمْرٍ وَهُمْ لِغَيْرِهِ):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (نسخة منقحة)



.فَصْلٌ: [الثَّانِيَةُ طَائِفَةٌ أَشَارُوا عَنْ مَنْزِلٍ وَهُمْ فِي غَيْرِهِ وَوَرُّوا بِأَمْرٍ وَهُمْ لِغَيْرِهِ]:

قَالَ: الطَّبَقَةُ الثَّانِيَةُ: طَائِفَةٌ أَشَارُوا عَنْ مَنْزِلٍ وَهُمْ فِي غَيْرِهِ، وَوَرُّوا بِأَمْرٍ وَهُمْ لِغَيْرِهِ، وَنَادَوْا عَلَى شَأْنٍ وَهُمْ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ أَصْحَابِ السِّرِّ فَهُمْ بَيْنَ غَيْرَةٍ عَلَيْهِمْ تَسْتُرُهُمْ وَأَدَبٍ فِيهِمْ يَصُونُهُمْ وَظَرْفٍ يُهَذِّبُهُمْ.
أَهْلُ هَذِهِ الطَّبَقَةِ اسْتَسَرُّوا اخْتِيَارًا وَإِرَادَةً لِذَلِكَ، صِيَانَةً لِأَحْوَالِهِمْ، وَكَمَالًا فِي تَمَكُّنِهِمْ، فَمَقَامَاتُهُمْ عَالِيَةٌ لَا تَرْمُقُهَا الْعُيُونُ وَلَا تُخَالِطُهَا الظُّنُونُ، يُشِيرُونَ إِلَى مَا يَعْرِفُهُ الْمُخَاطَبُ مِنْ مَقَامَاتِ الْمُرِيدِينَ السَّالِكِينَ، وَبِدَايَاتِ السُّلُوكِ، وَيُخْفُونَ مَا مَكَّنَهُمْ فِيهِ الْحَقُّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مِنْ أَحْوَالِ الْمَحَبَّةِ وَمَوَاجِيدِهَا، وَآثَارِ الْمَعْرِفَةِ وَتَوْحِيدِهَا، فَهَذِهِ هِيَ التَّوْرِيَةُ الَّتِي ذَكَرَهَا.
فَكَأَنَّهُمْ يُظْهِرُونَ لِلْمُخَاطَبِ: أَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْبِدَايَاتِ، وَهُمْ فِي أَعْلَى الْمَقَامَاتِ، يَتَكَلَّمُونَ مَعَهُمْ فِي الْبِدَايَةِ وَالْإِرَادَةِ وَالسُّلُوكِ، وَمَقَامُهُمْ فَوْقَ ذَلِكَ، وَهُمْ مُحِقُّونَ فِي الْحَالَتَيْنِ، لَكِنَّهُمْ يَسْتُرُونَ أَشْرَفَ أَحْوَالِهِمْ وَمَقَامَاتِهِمْ عَنِ النَّاسِ.
وَبِالْجُمْلَةِ: فَهُمْ مَعَ النَّاسِ بِظَوَاهِرِهِمْ، يُخَاطِبُونَهُمْ عَلَى قَدْرِ عُقُولِهِمْ، وَلَا يُخَاطِبُونَهُمْ بِمَا لَا تَصِلُ إِلَيْهِ عُقُولُهُمْ، فَيُنْكِرُونَ عَلَيْهِمْ فَيَحْسَبُهُمُ الْمُخَاطَبُ مِثْلَهُ، فَالنَّاسُ عِنْدَهُمْ وَلَيْسُوا هُمْ عِنْدَ أَحَدٍ.
قَوْلُهُ: أَشَارُوا إِلَى مَنْزِلٍ، وَهُمْ فِي غَيْرِهِ يَعْنِي: يُشِيرُونَ إِلَى مَنْزِلِ التَّوْبَةِ، وَالْمُحَاسَبَةِ وَهُمْ فِي مَنْزِلِ الْمَحَبَّةِ، وَالْوَجْدِ، وَالذَّوْقِ وَنَحْوِهَا.
وَقَدْ يُرِيدُ: أَنَّهُمْ يُشِيرُونَ إِلَى أَنَّهُمْ عَامَّةٌ، وَهُمْ خَاصَّةُ الْخَاصَّةِ، وَإِلَى أَنَّهُمْ جُهَّالٌ، وَهُمُ الْعَارِفُونَ بِاللَّهِ، وَأَنَّهُمْ مُسِيئُونَ، وَهُمْ مُحْسِنُونَ.
وَعَلَى هَذَا: فَيَكُونُونَ مِنَ الطَّائِفَةِ الْمَلَامَتِيَّةِ، الَّذِينَ يُظْهِرُونَ مَا لَا يُمْدَحُونَ عَلَيْهِ، وَيُسِرُّونَ مَا يَحْمَدُهُمُ اللَّهُ عَلَيْهِ، عَكْسُ الْمُرَائِينَ الْمُنَافِقِينَ، وَهَؤُلَاءِ طَائِفَةٌ مَعْرُوفَةٌ. لَهُمْ طَرِيقَةٌ مَعْرُوفَةٌ، تُسَمَّى طَرِيقَةَ أَهْلِ الْمَلَامَةِ وَهُمُ الطَّائِفَةُ الْمَلَامَتِيَّةُ يَزْعُمُونَ: أَنَّهُمْ يَحْتَمِلُونَ مَلَامَ النَّاسِ لَهُمْ عَلَى مَا يُظْهِرُونَهُ مِنَ الْأَعْمَالِ. لِيَخْلُصَ لَهُمْ مَا يُبْطِنُونَهُ مِنَ الْأَحْوَالِ. وَيَحْتَجُّونَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ} فَهُمْ عَامِلُونَ عَلَى إِسْقَاطِ جَاهِهِمْ وَمَنْزِلَتِهِمْ فِي قُلُوبِ النَّاسِ. لَمَّا رَأَوُا الْمُغْتَرِّينَ- الْمُغْتَرَّ بِهِمْ- مِنَ الْمُنْتَسِبِينَ إِلَى السُّلُوكِ يَعْمَلُونَ عَلَى تَزْكِيَةِ نُفُوسِهِمْ، وَتَوْفِيرِ جَاهِهِمْ فِي قُلُوبِ النَّاسِ. فَعَاكَسَهُمْ هَؤُلَاءِ وَأَظْهَرُوا بَطَالَةً وَأَبْطَنُوا أَعْمَالًا. وَكَتَمُوا أَحْوَالَهُمْ جُهْدَهُمْ. وَيَنْشُدُونَ فِي هَذِهِ الْحَالِ:
فَلَيْتَكَ تَحْلُو وَالْحَيَاةُ مَرِيـرَةُ ** وَلَيْتَكَ تَرْضَى وَالْأَنَــامُ غِضَابُ

وَلَيْتَ الَّذِي بَيْنِي وَبَيْنَكَ عَامِرٌ ** وَبَيْنِي وَبَيْنَ الْعَالَـــمِينَ خَرَابُ

إِذَا صَحَّ مِنْكَ الْوُدُّ يَا غَايَةَ الْمُنَى ** فَكُلُّ الَّذِي فَوْقَ التُّـرَابِ تُرَابُ

قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ هِلَالِ بْنِ يَسَافٍ قَالَ: كَانَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ يَقُولُ: إِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلْيَدْهِنْ لِحْيَتَهُ وَيَمْسَحْ شَفَتَيْهِ، حَتَّى يَخْرُجَ إِلَى النَّاسِ، فَيَقُولُونَ: لَيْسَ بِصَائِمٍ.
وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُهُمْ: التَّصَوُّفُ تَرْكُ الدَّعَاوَى، وَكِتْمَانُ الْمَعَانِي، وَسُئِلَ الْحَارِثُ بْنُ أَسَدٍ عَنْ عَلَامَاتِ الصَّادِقِ؟ فَقَالَ: أَنْ لَا يُبَالِيَ أَنْ يُخْرِجَ كُلَّ قَدْرٍ لَهُ فِي قُلُوبِ الْخَلْقِ مِنْ أَجْلِ صَلَاحِ قَلْبِهِ، وَلَا يُحِبُّ اطِّلَاعَ النَّاسِ عَلَى الْيَسِيرِ مِنْ عَمَلِهِ.
وَهَذَا يُحْمَدُ فِي حَالٍ، وَيُذَمُّ فِي حَالٍ، وَيَحْسُنُ مِنْ رَجُلٍ وَيَقْبُحُ مِنْ آخَرَ، فَيُحْمَدُ إِذَا أَظْهَرَ مَا يَجُوزُ إِظْهَارُهُ، وَلَا نَقْصَ عَلَيْهِ فِيهِ، وَلَا ذَمَّ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ؛ لِيَكْتُمَ بِهِ حَالَهُ وَعَمَلَهُ، كَمَا إِذَا أَظْهَرَ الْغِنَى وَكَتَمَ الْفَقْرَ وَالْفَاقَةَ، وَأَظْهَرَ الصِّحَّةَ وَكَتَمَ الْمَرَضَ، وَأَظْهَرَ النِّعْمَةَ وَكَتَمَ الْبَلِيَّةَ.
فَهَذَا كُلُّهُ مِنْ كُنُوزِ السِّتْرِ، وَلَهُ فِي الْقَلْبِ تَأْثِيرٌ عَجِيبٌ يَعْرِفُهُ مَنْ ذَاقَهُ، وَشَكَا رَجُلٌ إِلَى الْأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ شَكَاةً فَقَالَ: يَا ابْنِ أَخِي قَدْ ذَهَبَ ضَوْءُ بَصَرِي مِنْ عِشْرِينَ سَنَةً فَمَا أَخْبَرْتُ بِهِ أَحْدًا.
وَأَمَّا الْحَالُ الَّتِي يُذَمُّ فِيهَا: فَأَنْ يُظْهِرَ مَا لَا يَجُوزُ إِظْهَارُهُ، لِيُسِيءَ بِهِ النَّاسُ الظَّنَّ، فَلَا يُعَظِّمُوهُ كَمَا يُذْكَرُ عَنْ بَعْضِهِمْ: أَنَّهُ دَخَلَ الْحَمَّامَ، ثُمَّ خَرَجَ وَسَرَقَ ثِيَابَ رَجُلٍ، وَمَشَى رُوَيْدًا حَتَّى أَدْرَكُوهُ، فَأَخَذُوهَا مِنْهُ وَسَبُّوهُ فَهَذَا حَرَامٌ لَا يَحِلُّ تَعَاطِيهِ، وَيَقْبُحُ أَيْضًا مِنَ الْمَتْبُوعِ الْمُقْتَدَى بِهِ ذَلِكَ، بَلْ وَمَا هُوَ دُونَهُ؛ لِأَنَّهُ يُغِرُّ النَّاسَ، وَيُوقِعُهُمْ فِي التَّأَسِّي بِمَا يُظْهِرُهُ مِنْ سُوءٍ.
فَالْمَلَامَتِيَّةُ نَوْعَانِ: مَمْدُوحُونَ أَبْرَارٌ، وَمَذْمُومُونَ جُهَّالٌ. وَإِنْ كَانُوا فِي خِفَارَةِ صِدْقِهِمْ.
فَالْأَوَّلُونَ: الَّذِينَ لَا يُبَالُونَ بِلَوْمِ اللَّوْمِ فِي ذَاتِ اللَّهِ، وَالْقِيَامِ بِأَمْرِهِ، وَالدَّعْوَةِ إِلَيْهِ، وَهُمُ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ: {يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ} فَأَحَبُّ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ: مَنْ لَا تَأْخُذُهُ فِي اللَّهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ، وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَا تَأْخُذُهُ فِي اللَّهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ.
وَالنَّوْعُ الثَّانِي الْمَذْمُومُ: هُوَ الَّذِي يُظْهِرُ مَا يُلَامُ عَلَيْهِ شَرْعًا مِنْ مُحَرَّمٍ أَوْ مَكْرُوهٍ. لِيَكْتُمَ بِذَلِكَ حَالَهُ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يُذِلَّ نَفْسَهُ».
فَلْنَرْجِعْ إِلَى شَرْحِ كَلَامِ الشَّيْخِ.
قَوْلُهُ: أَشَارُوا إِلَى مَنْزِلٍ. وَهُمْ فِي غَيْرِهِ.
مِثَالُهُ: أَنَّهُمْ يَتَكَلَّمُونَ فِي التَّوْبَةِ وَالْمُحَاسَبَةِ وَهُمْ فِي مَنْزِلِ الْمَحَبَّةِ وَالْفَنَاءِ.
قَوْلُهُ وَوَرُّوا بِأَمْرٍ. وَهُمْ لِغَيْرِهِ التَّوْرِيَةُ: أَنْ يَذْكُرَ لَفْظًا يَفْهَمُ بِهِ الْمُخَاطَبُ مَعْنًى، وَهُوَ يُرِيدُ غَيْرَهُ، مِثَالُهُ: أَنْ يَقُولَ أَحَدُهُمْ: أَنَا غَنِيٌّ. فَيُوهِمُ الْمُخَاطَبَ لَهُ أَنَّهُ غَنِيٌّ بِالشَّيْءِ. وَمُرَادُهُ: غَنِيٌّ بِاللَّهِ عَنْهُ. كَمَا قِيلَ:
غَنِيتُ بِلَا مَالٍ عَنِ النَّاسِ كُلِّهِمْ ** وَإِنَّ الْغِنَى الْعَالِي عَنِ الشَّيْءِ لَا بِهِ

وَأَنْ يَقُولَ: مَا صَحَّ لِي مَقَامُ التَّوْبَةِ بَعْدُ. وَيُرِيدُ: مَا صَحَّتْ لِيَ التَّوْبَةُ عَنْ رُؤْيَةِ التَّوْبَةِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ وَنَادَوْا عَلَى شَأْنٍ. وَهُمْ عَلَى غَيْرِهِ أَيْ: عَظَّمُوا شَأْنًا مِنْ شِئُونِ الْقَوْمِ، وَدَعُوا النَّاسَ إِلَيْهِ، وَهُمْ فِي أَعْلَى مِنْهُ، وَهَذَا قَرِيبٌ مِمَّا قَبْلَهُ.
قَوْلُهُ: فَهُمْ بَيْنَ غَيْرَةٍ عَلَيْهِمْ تَسْتُرُهُمْ أَيْ: يَغَارُ الْحَقُّ سُبْحَانَهُ عَلَيْهِمْ، فَيَسْتُرُهُمْ عَنِ الْخَلْقِ، وَيَغَارُونَ عَلَى أَحْوَالِهِمْ وَمَقَامَاتِهِمْ، فَيَسْتُرُونَ أَحْوَالَهُمْ عَنْ رُؤْيَةِ الْخَلْقِ لَهَا، كَمَا قِيلَ:
أَلِفَ الْخُمُولَ صِيـَـانَةً وَتَسَتُّرًا ** فَكَأَنَّمَا تَعْرِيفَــهُ أَنْ يُنْـكَرَا

وَكَأَنَّهُ كَلِفُ الْفُــؤَادِ بِنَفْسِهِ ** فَحَمَتْهُ غَيْـرَتُهُ عَلَيْهَا أَنْ تَـرَى

قَوْلُهُ: وَأَدَبٌ فِيهِمْ يَصُونُهُمْ، بِهَذَا يَتِمُّ أَمْرُهُمْ، وَهُوَ أَنْ يَقُومَ بِهِمْ أَدَبٌ يَصُونُهُمْ عَنْ ظَنِّ السَّوْءِ بِهِمْ، وَيَصُونُهُمْ عَنْ دَنَاءَةِ الْأَخْلَاقِ وَالْأَعْمَالِ، فَأَدَبُهُمْ صِوَانٌ عَلَى أَحْوَالِهِمْ، فَهِمَّتُهُ الْعَلِيَّةُ تَرْتَفِعُ بِهِ، وَأَدَبُهُ يَرْسُو بِهِ إِلَى التُّرَابِ، كَمَا قِيلَ:
أَبْلَجُ سَهْلُ الْأَخْــلَاقِ مُمْتَنِـعٌ ** يُبْرِزُهُ الدَّهْــرُ وَهْوَ يَحْتَـجِبُ

إِذَا تَرَقَّتْ بِهِ عَـــزَائِمُــهُ ** إِلَى الثُّرَيَّـا رَسَا بِــهِ الْأَدَبُ

فَأَدَبُ الْمُرِيدِ وَالسَّالِكِ: صِوَانٌ لَهُ، وَتَاجٌ عَلَى رَأْسِهِ.
قَوْلُهُ: وَظَرْفٌ يُهَذِّبُهُمْ التَّهْذِيبُ: هُوَ التَّأْدِيبُ وَالتَّصْفِيَةُ. وَالظَّرْفُ فِي هَذِهِ الطَّائِفَةِ: أَحْلَى مِنْ كُلِّ حُلْوٍ. وَأَزْيَنُ مِنْ كُلِّ زَيْنٍ. فَمَا قُرِنَ شَيْءٌ إِلَى شَيْءٍ أَحْسَنُ مِنْ ظَرْفٍ إِلَى صِدْقٍ وَإِخْلَاصٍ، وَسِرٍّ مَعَ اللَّهِ وَجَمْعِيَّةٍ عَلَيْهِ، فَإِنَّ أَكْثَرَ مَنْ عُنِيَ بِهَذَا الشَّأْنِ تَضِيقُ نَفْسُهُ وَأَخْلَاقُهُ عَنْ سِوَى مَا هُوَ بِصَدَدِهِ، فَتَثْقُلُ وَطْأَتُهُ عَلَى أَهْلِهِ وَجَلِيسِهِ، وَيَضْمَنُ عَلَيْهِ بِبِشْرِهِ، وَالتَّبَسُّطِ إِلَيْهِ، وَلِينِ الْجَانِبِ لَهُ. وَلَعَمْرُ اللَّهِ إِنَّهُ لَمَعْذُورٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ بِمَشْكُورٍ، فَإِنَّ الْخَلْقَ كُلَّهُمْ أَغْيَارٌ، إِلَّا مَنْ أَعَانَكَ عَلَى شَأْنِكَ وَسَاعَدَكَ عَلَى مَطْلُوبِكَ.
فَإِذَا تَمَكَّنَ الْعَبْدُ فِي حَالِهِ وَصَارَ لَهُ إِقْبَالٌ عَلَى اللَّهِ وَجَمْعِيَّةٌ عَلَيْهِ- مَلَكَةً وَمَقَامًا رَاسِخًا- أَنِسَ بِالْخَلْقِ وَأَنِسُوا بِهِ، وَانْبَسَطَ إِلَيْهِمْ وَحَمَلَهُمْ عَلَى ضَلَعِهِمْ وَبُطْءِ سَيْرِهِمْ، فَعَكَفَتِ الْقُلُوبُ عَلَى مَحَبَّتِهِ لِلُطْفِهِ وَظَرْفِهِ، فَإِنَّ النَّاسَ يَنْفِرُونَ مِنَ الْكَثِيفِ وَلَوْ بَلَغَ فِي الدِّينِ مَا بَلَغَ، وَلِلَّهِ مَا يَجْلِبُ اللُّطْفُ وَالظَّرْفُ مِنَ الْقُلُوبِ، وَيَدْفَعُ عَنْ صَاحِبِهِ مِنَ الشَّرِّ، وَيُسَهِّلُ لَهُ مَا تَوَعَّرَ عَلَى غَيْرِهِ، فَلَيْسَ الثُّقَلَاءُ بِخَوَاصِّ الْأَوْلِيَاءِ، وَمَا ثَقُلَ أَحَدٌ عَلَى قُلُوبِ الصَّادِقِينَ الْمُخْلِصِينَ إِلَّا مِنْ آفَةٍ هُنَاكَ، وَإِلَّا فَهَذِهِ الطَّرِيقُ تَكْسُو الْعَبْدَ حَلَاوَةً وَلَطَافَةً وَظَرْفًا، فَتَرَى الصَّادِقَ فِيهَا مِنْ أَحْلَى النَّاسِ وَأَلْطَفِهِمْ وَأَظْرَفِهِمْ، قَدْ زَالَتْ عَنْهُ ثَقَالَةُ النَّفْسِ وَكُدُورَةُ الطَّبْعِ، وَصَارَ رُوحَانِيًّا سَمَائِيًّا بَعْدَ أَنْ كَانَ حَيَوَانِيًّا أَرْضِيًّا، فَتَرَاهُ أَكْرَمَ النَّاسِ عِشْرَةً، وَأَلْيَنَهُمْ عَرِيكَةً، وَأَلْطَفَهُمْ قَلْبًا وَرُوحًا، وَهَذِهِ خَاصَّةُ الْمَحَبَّةِ، فَإِنَّهَا تَلْطُفُ وَتَظْرُفُ وَتَنْظُفُ.
وَمِنْ ظَرْفِ أَهْلِ هَذِهِ الطَّبَقَةِ: أَنْ لَا يَظْهَرَ أَحَدُهُمْ عَلَى جَلِيسِهِ بِحَالٍ وَلَا مَقَامٍ. وَلَا يُوَاجِهَهُ إِذَا لَقِيَهُ بِالْحَالِ، بَلْ بِلِينِ الْجَانِبِ، وَخَفْضِ الْجَنَاحِ، وَطَلَاقَةِ الْوَجْهِ، فَيَفْرِشُ لَهُ بِسَاطَ الْأُنْسِ وَيُجْلِسُهُ عَلَيْهِ. فَهُوَ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنَ الْفُرُشِ الْوَثِيرَةِ. وَسُئِلَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْقَصَّابُ- أُسْتَاذُ الْجُنَيْدِ- عَنِ التَّصَوُّفِ؟ فَقَالَ: أَخْلَاقٌ كَرِيمَةٌ ظَهَرَتْ فِي زَمَانٍ كَرِيمٍ مَعَ قَوْمٍ كِرَامٍ.
وَبِالْجُمْلَةِ: فَهَذِهِ الطَّرِيقُ لَا تُنَافِي اللُّطْفَ وَالظَّرْفَ. وَالصَّلَفُ- بَلْ هِيَ أَصْلَفُ شَيْءٍ لَكِنْ هَاهُنَا دَقِيقَةٌ قَاطِعَةٌ- وَهِيَ الِاسْتِرْسَالُ مَعَ هَذِهِ الْأُمُورِ، فَإِنَّهَا أَقْطَعُ شَيْءٍ لِلْمُرِيدِ وَالسَّالِكِ، فَمَنِ اسْتَرْسَلَ مَعَهَا قَطَعَتْهُ، وَمَنْ عَادَاهَا بِالْكُلِّيَّةِ وَعُرَتْ عَلَيْهِ طَرِيقُ سُلُوكِهِ، وَمَنِ اسْتَعَانَ بِهَا أَرَاحَتْهُ فِي طَرِيقِهِ، أَوْ أَرَاحَتْ غَيْرَهُ بِهِ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.

.فَصْلٌ: [أَثْقَلُ شَيْءٍ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الطَّبَقَةِ]:

وَأَهْلُ هَذِهِ الطَّبَقَةِ، أَثْقَلُ شَيْءٍ عَلَيْهِمْ أَيْ: أَصْحَابُ السِّرِّ: الْبَحْثُ عَمَّا جَرَيَاتِ النَّاسِ، وَطَلَبُ تَعَرُّفِ أَحْوَالِهِمْ، وَأَثْقَلُ مَا عَلَى قُلُوبِهِمْ سَمَاعُهَا، فَهُمْ مَشْغُولُونَ عَنْهَا بِشَأْنِهِمْ، فَإِذَا اشْتَغَلُوا بِمَا لَا يَعْنِيهِمْ مِنْهَا فَاتَهُمْ مَا هُوَ أَعْظَمُ عِنَايَةً لَهُمْ، وَإِذَا عَدَّ غَيْرُهُمْ الِاشْتِغَالَ بِذَلِكَ وَسَمَاعَهُ مِنْ بَابِ الظَّرْفِ وَالْأَدَبِ، وَسَتْرِ الْأَحْوَالِ كَانَ هَذَا مِنْ خِدَعِ النُّفُوسِ وَتَلْبِيسِهَا، فَإِنَّهُ يَحُطُّ الْهِمَمَ الْعَالِيَةِ مِنْ أَوْجِهَا إِلَى حَضِيضِهَا، وَرُبَّمَا يَعِزُّ عَلَيْهِ أَنْ يُحَصِّلَ هِمَّةً أُخْرَى يَصْعَدُ بِهَا إِلَى مَوْضِعِهِ الَّذِي كَانَ فِيهِ، فَأَهْلُ الْهِمَمِ وَالْفِطَنِ الثَّاقِبَةِ لَا يَفْتَحُونَ مِنْ آذَانِهِمْ وَقُلُوبِهِمْ طَرِيقًا إِلَى ذَلِكَ، إِلَّا مَا تَقَاضَاهُ الْأَمْرُ، وَكَانَتْ مَصْلَحَتُهُ أَرْجَحَ، وَمَا عَدَاهُ فَبَطَالَةٌ وَحَطُّ مَرْتَبَةٍ.

.فَصْلٌ: [الثَّالِثَةُ طَائِفَةٌ أَسَرَهُمُ الْحَقُّ عَنْهُمْ فَأَلَاحَ لَهُمْ لَائِحًا أَذْهَلَهُمْ عَنْ إِدْرَاكِ مَا هُمْ فِيهِ]

قَالَ: الطَّبَقَةُ الثَّالِثَةُ: طَائِفَةٌ أَسَرَهُمُ الْحَقُّ عَنْهُمْ، فَأَلَاحَ لَهُمْ لَائِحًا أَذْهَلَهُمْ عَنْ إِدْرَاكِ مَا هُمْ فِيهِ مِنْ أَصْحَابِ السِّرِّ وَهَيَّمَهُمْ عَنْ شُهُودِ مَا هُمْ لَهُ، وَضَنَّ بِحَالِهِمْ عَنْ عِلْمِهِمْ مَا هُمْ بِهِ، فَاسْتَسَرُّوا عَنْهُمْ مَعَ شَوَاهِدَ تَشْهَدُ لَهُمْ بِصِحَّةِ مَقَامِهِمْ، عَنْ قَصْدٍ صَادِقٍ يُهَيِّجُهُ غَيْبٌ وَحُبٌّ صَادِقٌ يَخْفَى عَلَيْهِ عِلْمُهُ، وَوَجْدٌ غَرِيبٌ لَا يَنْكَشِفُ لَهُ مُوقِدُهُ، وَهَذَا مِنْ أَدَقِّ مَقَامَاتِ أَهْلِ الْوِلَايَةِ.
أَهْلُ هَذِهِ الطَّبَقَةِ: أَحَقُّ بِاسْمِ السِّرِّ مِنَ الَّذِينَ قَبْلَهُمْ، فَإِنَّهُ- إِذَا كَانَتْ أَحْوَالُ الْقَلْبِ، وَمَوَاهِبُ الرَّبِّ الَّتِي وَضَعَهَا فِيهِ سِرًّا عَنْ صَاحِبِهِ، بِحَيْثُ لَا يَشْعُرُ هُوَ بِهَا، شُغْلًا عَنْهَا بِالْعَزِيزِ الْوَهَّابِ سُبْحَانَهُ، فَلَا يَتَّسِعُ قَلْبُهُ لِاشْتِغَالِهِ بِهِ وَبِغَيْرِهِ، بَلْ يَشْتَغِلُ بِمُجْرِيهَا وَمُنْشِئِهَا وَوَاهِبِهَا عَنْهَا- فَهَذَا أَقْوَى وُجُوهِ السِّرِّ، بَلْ ذَلِكَ أَخْفَى مِنَ السِّرِّ، وَمِنْ أَعْظَمِ السِّتْرِ وَالْإِخْفَاءِ أَنْ يَسْتُرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حَالَ عَبْدِهِ وَيُخْفِيهِ عَنْهُ، رَحْمَةً بِهِ وَلُطْفًا، لِئَلَّا يُسَاكِنَهُ وَيَنْقَطِعَ بِهِ عَنْ رَبِّهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ خِلْعَةٌ مِنْ خِلَعِ الْحَقِّ تَعَالَى، فَإِذَا سَتَرَهَا صَاحِبُهَا وَمُلْبِسُهَا عَنْ عَبْدِهِ، فَقَدْ أَرَادَ بِهِ أَنْ لَا يَقِفَ مَعَ شَيْءٍ دُونَهُ، وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ السِّتْرُ مِمَّا يَشْتَغِلُ بِهِ الْعَبْدُ عَنْ مُشَاهَدَةِ جَلَالِ الرَّبِّ تَعَالَى وَكَمَالِهِ وَجَمَالِهِ، أَعْنِي مُشَاهَدَةَ الْقَلْبِ لِمَعَانِي تِلْكَ الصِّفَاتِ وَاسْتِغْرَاقِهِ فِيهَا.
وَعَلَامَةُ هَذَا الشُّهُودِ الصَّحِيحِ: أَنْ يَكُونَ بَاطِنُهُ مَعْمُورًا بِالْإِحْسَانِ، وَظَاهِرُهُ مَغْمُورًا بِالْإِسْلَامِ، فَيَكُونُ ظَاهِرُهُ عُنْوَانًا لِبَاطِنِهِ مُصَدِّقًا لِمَا اتَّصَفَ بِهِ، وَبَاطِنُهُ مُصَحِّحًا لِظَاهِرِهِ، هَذَا هُوَ الْأَكْمَلُ عِنْدَ أَصْحَابِ الْفَنَاءِ.
وَأَكْمَلُ مِنْهُ: أَنْ يَشْهَدَ مَا وَهَبَهُ اللَّهُ لَهُ وَيُلَاحِظُهُ وَيَرَاهُ مِنْ مَحْضِ الْمِنَّةِ وَعَيْنِ الْجُودِ، فَلَا يَفْنَى بِالْمُعْطَى عَنْ رُؤْيَةِ عَطِيَّتِهِ، وَلَا يَشْتَغِلُ بِالْعَطِيَّةِ عَنْ مُعْطِيهَا، وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِالْفَرَحِ بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِرُؤْيَةِ الْفَضْلِ وَالرَّحْمَةِ وَمُلَاحَظَتِهِمَا، وَأَمَرَ بِذِكْرِ نِعَمِهِ وَآلَائِهِ، فَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ}، وَقَالَ تَعَالَى: {فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}، وَقَالَ تَعَالَى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ}.
فَلَمْ يَأْمُرِ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِالْفَنَاءِ عَنْ شُهُودِ نِعْمَتِهِ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ مَقَامُ الْفَنَاءِ أَرْفَعَ مِنْ مَقَامِ شُهُودِهَا مِنْ فَضْلِهِ وَمِنَّتِهِ.
وَقَدْ أَشْبَعْنَا الْقَوْلَ فِي هَذَا فِيمَا تَقَدَّمَ، وَلَا تَأْخُذُنَا فِيهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ، وَلَا تَأْخُذُ أَرْبَابَ الْفَنَاءِ فِي تَرْجِيحِ الْفَنَاءِ عَلَيْهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ.
فَقَوْلُهُ: أَسَرَهُمُ الْحَقُّ عَنْهُمْ أَيْ: شَغَلَهُمْ بِهِ عَنْ ذِكْرِ أَنْفُسِهِمْ، فَأَنْسَاهُمْ بِذِكْرِهِ ذِكْرَ نُفُوسِهِمْ، وَهَذَا ضِدَّ حَالِ الَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ، فَإِنَّ أُولَئِكَ لَمَّا نَسُوهُ أَنْسَاهُمْ مَصَالِحَ أَنْفُسِهِمُ الَّتِي لَا صَلَاحَ لَهُمْ إِلَّا بِهَا، فَلَا يَطْلُبُونَهَا، وَأَنْسَاهُمْ عُيُوبَهُمْ، فَلَا يُصْلِحُونَهَا، وَهَؤُلَاءِ أَنْسَاهُمْ حُظُوظَهُمْ بِحُقُوقِهِ، وَذِكْرَ مَا سِوَاهُ بِذِكْرِهِ، وَالْمَقْصُودُ: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَخَذَهُمْ إِلَيْهِ وَشَغَلَهُمْ بِهِ عَنْهُمْ.
قَوْلُهُ: وَأَلَاحَ لَهُمْ لَائِحًا أَذْهَلَهُمْ عَنْ إِدْرَاكِ مَا هُمْ فِيهِ.
أَلَاحَ؛ أَيْ: أَظْهَرَ، وَالْمَعْنَى: أَظْهَرَ لَهُمْ مِنْ مَعْرِفَةِ جَمَالِهِ وَجَلَالِهِ لَائِحًا مَا لَمْ تَتَّسِعْ قُلُوبُهُمْ بَعْدَهُ لِإِدْرَاكِ شَيْءٍ مِنْ أَحْوَالِهِمْ وَمَقَامَاتِهِمْ، وَهَذَا رَقِيقَةٌ مِنْ حَالِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، إِذَا تَجَلَّى لَهُمْ سُبْحَانَهُ وَأَرَاهُمْ نَفْسَهُ، فَإِنَّهُمْ لَا يَشْعُرُونَ فِي تِلْكَ الْحَالِ بِشَيْءٍ مِنَ النَّعِيمِ، وَلَا يَلْتَفِتُونَ إِلَى سِوَاهُ أَلْبَتَّةَ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ فِي قَوْلِهِ: فَلَا يَلْتَفِتُونَ إِلَى شَيْءٍ مِنَ النَّعِيمِ مَا دَامُوا يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّ هَذَا اللَّائِحَ الَّذِي أَلَاحَهُ سُبْحَانَهُ لَهُمْ أَذْهَلَهُمْ عَنِ الشُّعُورِ بِغَيْرِهِ.
قَوْلُهُ: هَيَّمَهُمْ عَنْ شُهُودِ مَا هُمْ لَهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ: أَنَّ هَذَا اللَّائِحَ هَيَّمَهُمْ عَنْ شُهُودِ مَا خُلِقُوا لَهُ، فَلَمْ يَبْقَ فِيهِمُ اتِّسَاعٌ لِلْجَمْعِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ، وَهَذَا- وَإِنْ كَانَ لِقُوَّةِ الْوَارِدِ- فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى ضَعْفِ الْمَحَلِّ، حَيْثُ لَمْ يَتَّسِعِ الْقَلْبُ مَعَهُ لِذِكْرِ مَا خُلِقَ لَهُ، وَالْكَمَالُ: أَنْ يَجْتَمِعَ لَهُ الْأَمْرَانِ.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ: أَنَّ هَذَا اللَّائِحَ غَيَّبَهُمْ عَنْ شُهُودِ أَحْوَالِهِمُ الَّتِي هُمْ لَهَا فِي تِلْكَ الْحَالِ، فَغَابُوا بِمَشْهُودِهِمْ عَنْ شُهُودِهِمْ، وَبِمَعْرُوفِهِمْ عَنْ مَعْرِفَتِهِمْ، وَبِمَعْبُودِهِمْ عَنْ عِبَادَتِهِمْ، فَإِنَّ الْهَائِمَ لَا يَشْعُرُ بِمَا هُوَ فِيهِ وَلَا بِحَالِ نَفْسِهِ، وَفِي الصِّحَاحِ: الْهُيَامُ كَالْجُنُونِ مِنَ الْعِشْقِ.
قَوْلُهُ: وَضَنَّ بِحَالِهِمْ عَنْ عِلْمِهِمْ أَيْ: بَخِلَ بِهِ، وَالْمَعْنَى لَمْ يَكُنْ عِلْمُهُمْ أَنْ يُدْرِكَ حَالَهُمْ وَمَا هُمْ عَلَيْهِ،
قَوْلُهُ: فَاسْتَسَرُّوا عَنْهُمْ أَيِ: اخْتَفُوا حَتَّى عَنْ أَنْفُسِهِمْ، فَلَمْ تَعْلَمْ نُفُوسُهُمْ كَيْفَ هُمْ؟ وَلَا تُبَادِرُ بِإِنْكَارِ هَذَا، تَكُنْ مِمَّنْ لَا يَصِلُ إِلَى الْعُنْقُودِ، فَيَقُولُ: هُوَ حَامِضٌ.
قَوْلُهُ: مَعَ شَوَاهِدَ تَشْهَدُ لَهُمْ بِصِحَّةِ مَقَامِهِمْ.
يُرِيدُ: أَنَّهُمْ لَمْ يُعَطِّلُوا أَحْكَامَ الْعُبُودِيَّةِ فِي هَذِهِ الْحَالِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ شَاهِدًا عَلَيْهِمْ بِفَسَادِ أَحْوَالِهِمْ، بَلْ لَهُمْ- مَعَ ذَلِكَ- شَوَاهِدُ صَحِيحَةٌ، تَشْهَدُ لَهُمْ بِصِحَّةِ مَقَامَاتِهِمْ، وَتِلْكَ الشَّوَاهِدُ: هِيَ الْقِيَامُ بِالْأَمْرِ وَآدَابِ الشَّرِيعَةِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا.
قَوْلُهُ: عَنْ قَصْدٍ سَابِقٍ، يُهَيِّجُهُ غَيْبٌ يَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ هَذَا الْحَرْفُ وَمَا بَعْدَهُ بِمَحْذُوفٍ، دَلَّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ؛ أَيْ: حَصَلَ لَهُمْ ذَلِكَ عَنْ قَصْدٍ صَادِقٍ؛ أَيْ: لَازِمٍ ثَابِتٍ، لَا يَلْحَقُهُ تَلَوُّنٌ يُهَيِّجُهُ غَيْبٌ أَيْ: أَمْرٌ غَائِبٌ عَنْ إِدْرَاكِهِمْ هَيَّجَ لَهُمْ ذَلِكَ الْقَصْدَ الصَّادِقَ.
قَوْلُهُ: وَحُبٌّ صَادِقٌ يَخْفَى عَلَيْهِ مَبْدَأُ عِلْمِهِ، أَيْ: هُمْ لَا يَعْرِفُونَ مَبْدَأَ مَا بِهِمْ، وَلَا يَصِلُ عِلْمُهُمْ إِلَيْهِ؛ لِأَنَّهُمْ لَمَّا لَاحَ لَهُمْ ذَلِكَ اللَّائِحُ اسْتَغْرَقَ قُلُوبَهُمْ، وَشَغَلَ عُقُولَهُمْ عَنْ غَيْرِهِ، فَهُمْ مَأْخُوذُونَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ مَقْهُورُونَ بِوَارِدِهِمْ.
قَوْلُهُ: وَوَجْدٌ غَرِيبٌ لَا يَنْكَشِفُ لِصَاحِبِهِ مُوقِدُهُ أَيْ: لَا يَنْكَشِفُ لِصَاحِبِ هَذَا الْوَجْدِ السَّبَبُ الَّذِي أَهَاجَهُ لَهُ، وَأَوْقَدَهُ فِي قَلْبِهِ، فَهُوَ لَا يَعْرِفُ السَّبَبَ الَّذِي أَوْجَدَ نَارَ وَجْدِهِ.
قَوْلُهُ: وَهَذَا مِنْ أَدَقِّ مَقَامَاتِ أَهْلِ الْوِلَايَةِ جَعَلَهُ دَقِيقًا لِكَوْنِ الْحِسِّ مَقْهُورًا مَغْلُوبًا عِنْدَ صَاحِبِهِ، وَالْعِلْمُ وَالْمَعْرِفَةُ لَا يَحْكُمَانِ عَلَيْهِ، فَضْلًا عَنِ الْحِسِّ وَالْعَادَةِ.
وَحَاصِلُ هَذَا الْمَقَامِ: الِاسْتِغْرَاقُ فِي الْفَنَاءِ، وَهُوَ الْغَايَةُ عِنْدَ الشَّيْخِ وَالصَّحِيحُ: أَنَّ أَهْلَ الطَّبَقَةِ الثَّانِيَةِ أَعْلَى مِنْ هَؤُلَاءِ، وَأَرْفَعُ مَقَامًا، وَهُمُ الْكُمَّلُ؛ وَهُمْ أَقْوَى مِنْهُمْ، كَمَا كَانَ مَقَامُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ أَرْفَعَ مِنْ مَقَامِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ يَوْمَ التَّجَلِّي، وَلَمْ يَحْصُلْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْفَنَاءِ مَا حَصَلَ لِمُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ حُبُّ امْرَأَةِ الْعَزِيزِ لِيُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَعْظَمَ مِنْ حُبِّ النِّسْوَةِ، وَلَمْ يَحْصُلْ لَهَا مِنْ تَقْطِيعِ الْأَيْدِي وَنَحْوِهِ مَا حَصَلَ لَهُنَّ، وَكَانَ حُبُّ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْظَمَ مِنْ حُبِّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَغَيْرِهِ، وَلَمْ يَحْصُلْ لَهُ عِنْدَ مَوْتِهِ مِنَ الِاضْطِرَابِ وَالْغَشْيِ وَالْإِقْعَادِ مَا حَصَلَ لِغَيْرِهِ.
فَأَهْلُ الْبَقَاءِ وَالتَّمَكُّنِ: أَقْوَى حَالًا، وَأَرْفَعُ مَقَامًا مِنْ أَهْلِ الْفَنَاءِ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.

.فَصْلٌ: [مَنْزِلَةُ النَّفَسِ]:

وَمِنْهَا النَّفَسُ وَمَعْنَاهَا؛ قَالَ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ:
بَابُ النَّفَسِ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ}.
وَجْهُ إِشَارَتِهِ بِالْآيَةِ: أَنَّ النَّفَسَ يَكُونُ بَعْدَ مُفَارَقَةِ الْحَالِ، وَانْفِصَالِهِ عَنْ صَاحِبِهِ، فَشَبَّهَ الْحَالَ بِالشَّيْءِ الَّذِي يَأْخُذُ صَاحِبَهُ فَيَغُتُّهُ وَيَغُطُّهُ، حَتَّى إِذَا أَقْلَعَ عَنْهُ تَنَفَّسَ نَفَسًا يَسْتَرِيحُ بِهِ وَيَسْتَرْوِحُ.
قَالَ: وَيُسَمَّى النَّفَسُ: نَفَسًا، لِتَرَوُّحِ الْمُتَنَفِّسِ بِهِ التَّنْفِيسُ هُوَ التَّرْوِيحُ، يُقَالُ: نَفَّسَ اللَّهُ عَنْكَ الْكَرْبَ؛ أَيْ: أَرَاحَكَ مِنْهُ، وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ».
وَهَذِهِ الْأَحْرُفُ الثَّلَاثَةُ- وَهِيَ النُّونُ وَالْفَاءُ وَمَا يُثَلِّثُهُمَا- تَدُلُّ حَيْثُ وُجِدَتْ عَلَى الْخُرُوجِ وَالِانْفِصَالِ، فَمِنْهُ النَّفَلُ؛ لِأَنَّهُ زَائِدٌ عَلَى الْأَصْلِ خَارِجٌ عَنْهُ، وَمِنْهُ: النَّفَرُ، وَالنَّفْيُ، وَالنَّفَسُ، وَنَفَقَتِ الدَّابَّةُ، وَنُفِسَتِ الْمَرْأَةُ وَنَفَسَتْ: إِذَا حَاضَتْ أَوْ وَلَدَتْ، فَالنَّفَسُ: خُرُوجٌ وَانْفِصَالٌ يَسْتَرِيحُ بِهِ الْمُتَنَفِّسُ.
قَالَ: وَهُوَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ، وَهِيَ تُشَابِهُ دَرَجَاتِ الْوَقْتِ وَجْهُ الشَّبَهِ بَيْنَهُمَا: أَنَّ الْأَوْقَاتَ تُعَدُّ بِالْأَنْفَاسِ كَدَرَجَاتِهَا.
وَأَيْضًا فَالْوَقْتُ، كَمَا قَالَ هُوَ: حِينُ وَجْدٍ صَادِقٍ فَقَيَّدَ الْحِينَ بِالْوَجْدِ، وَالْوَجْدُ بِالصِّدْقِ، وَقَالَ فِي هَذَا الْبَابِ: هُوَ نَفَسٌ فِي حِينِ اسْتِتَارٍ، فَقَيَّدَ النَّفَسَ بِالْحِينِ وَبِالْوَجْدِ، وَقَيَّدَ بِهِ الْوَقْتَ، فَهُوَ مُعْتَبَرٌ بِهِمَا.
وَأَيْضًا فَالْوَقْتُ وَالنَّفَسُ لَهُمَا أَسْبَابٌ تَعْرِضُ لِلْقَلْبِ بِسَبَبِ حَجْبِهِ عَنْ مَطْلُوبِهِ، أَوْ مُفَارَقَةِ حَالٍ كَانَ فِيهَا فَاسْتَتَرَتْ عَنْهُ، فَبَيْنَهُمَا تَشَابُهٌ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ وَغَيْرِهَا.

.فَصْلٌ: [الْأَنْفَاسُ ثَلَاثَةٌ]:

.[الْأَوَّلُ: نَفَسٌ فِي حِينِ اسْتِتَارٍ]:

قَالَ: وَالْأَنْفَاسُ ثَلَاثَةٌ: نَفَسٌ فِي حِينِ اسْتِتَارٍ نَفْسُ الْعَبْدِ وَقَلْبُهُ عَنْ نُورِ اللَّهِ وَآلَامِهِ فِي ذَلِكَ، وَهِيَ النَّفْسُ اللَّوَّامَةُ مَمْلُوءٍ مِنَ الْكَظْمِ، مُتَعَلِّقٍ بِالْعِلْمِ، إِنْ تَنَفَّسَ تَنَفَّسَ بِالْأَسَفِ، وَإِنْ نَطَقَ نَطَقَ بِالْحُزْنِ، وَعِنْدِي: هُوَ مُتَوَلِّدٌ مِنْ وَحْشَةِ الِاسْتِتَارِ، وَهِيَ الظُّلْمَةُ الَّتِي قَالُوا: إِنَّهَا مَقَامٌ.
فَقَوْلُهُ: نَفَسٌ فِي حِينِ اسْتِتَارٍ؛ أَيْ: يَكُونُ لَهُ حَالٌ صَادِقٌ، وَكَشْفٌ صَحِيحٌ، فَيَسْتَتِرُ عَنْهُ بِحُكْمِ الطَّبِيعَةِ وَالْبَشَرِيَّةِ وَلَا بُدَّ، فَيَضِيقُ بِذَلِكَ صَدْرُهُ، وَيَمْتَلِئُ كَظْمًا بِحَجْبِ مَا كَانَ فِيهِ وَاسْتِتَارِهِ لِأَسْبَابٍ فَاعِلِيَّةٍ وَغَائِيَّةٍ، سَتَرِدُ عَلَيْكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَإِذَا تَنَفَّسَ فِي هَذِهِ الْحَالِ فَتَنَفُّسُهُ تَنَفُّسُ الْحَزِينِ الْمَكْرُوبِ.
قَوْلُهُ: مَمْلُوءٌ مِنَ الْكَظْمِ الْكَظْمُ: هُوَ الْإِمْسَاكُ، وَمِنْهُ: كَظَمَ غَيْظَهُ، إِذَا تَجَرَّعَهُ وَحَبَسَهُ وَلَمْ يُخْرِجْهُ.
قَوْلُهُ: مُتَعَلِّقٍ بِالْعِلْمِ يُرِيدُ: أَنَّ ذَلِكَ النَّفَسَ مُتَعَلِّقٌ بِأَحْكَامِ الظَّاهِرِ لَا بِأَحْكَامِ الْحَالِ، وَذَلِكَ هُوَ الْبَلَاءُ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُ الشَّيْخِ لَهُ، وَهُوَ بَلَاءُ الْعَبْدِ بَيْنَ الِاسْتِجَابَةِ لِدَاعِي الْعِلْمِ وَدَاعِي الْحَالِ.
وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ نَفَسٌ مَكْظُومٌ: لِخُلُوِّهِ- فِي هَذِهِ الْحَالِ- مِنْ أَحْكَامِ الْمَحَبَّةِ الَّتِي تُهَوِّنُ الشَّدَائِدَ، وَتُسَهِّلُ الصَّعْبَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ وَتَعَلُّقِهِ بِالْعِلْمِ- الَّذِي هُوَ دَاعِي التَّفَرُّقِ- فَإِنَّ كَرْبَ الْمَحَبَّةِ مَمْزُوجٌ بِالْحَلَاوَةِ، فَإِذَا خَلَا مِنْ أَحْكَامِهَا إِلَى أَحْكَامِ الْعِلْمِ فَقَدَ تِلْكَ الْحَلَاوَةَ، وَاشْتَاقَ إِلَى ذَلِكَ الْكَرْبِ، كَمَا قِيلَ:
وَيَشْكُو الْمُحِبُّونَ الصَّبَابَةَ لَيْتَنِي ** تَحَمَّلْتُ مَا يَلْقُونَ مِنْ بَيْنِهِمْ وَحْدِي

فَكَانَ لِقَلْبِي لَذَّةُ الْحُبِّ كُلُّـهَا ** فَلَمْ يَلْقَهَا قَبْلِي مُحِبٌّ وَلَا بَعْـدِي

قَوْلُهُ: إِنْ تَنَفَّسَ تَنَفَّسَ بِالْأَسَفِ.
الْأَسَفُ: الْحُزْنُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى عَنْ يَعْقُوبَ: {يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ} وَالْأَسَفُ: الْغَضَبُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} وَهُوَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ: الْحُزْنُ عَلَى مَا تَوَارَى عَنْهُ مِنْ مَطْلُوبِهِ، أَوْ مِنْ صِدْقِ حَالِهِ.
قَوْلُهُ: وَإِنْ نَطَقَ نَطَقَ بِالْحُزْنِ يَعْنِي: أَنَّ هَذَا الْمُتَنَفِّسَ إِنْ نَطَقَ بِمَا يَدُلُّ عَلَى الْحُزْنِ عَلَى مَا تَوَارَى عَنْهُ، فَمَصْدَرُ تَنَفُّسِهِ وَنُطْقِهِ حُزْنُهُ عَلَى مَا حُجِبَ عَنْهُ.
قَوْلُهُ: وَعِنْدِي: أَنَّهُ يَتَوَلَّدُ مِنْ وَحْشَةِ الِاسْتِتَارِ وَالْحَجْبِ.
وَكَأَنَّ الِاسْتِتَارَ السَّبَبُ فَيَتَوَلَّدُ السَّبَبُ.
يُرِيدُ: أَنَّ هَذَا الْأَسَفَ- وَإِنْ أُضِيفَ إِلَى الِاسْتِتَارِ وَالْحِجَابِ- فَتَوَلُّدُهُ: إِنَّمَا هُوَ مِنَ الْوَحْشَةِ الَّتِي سَبَبُهَا الِاسْتِتَارُ مِنْ تِلْكَ الْوَحْشَةِ الْمُتَوَلِّدَةِ مِنَ الِاسْتِتَارِ، وَهَذَا صَحِيحٌ؛ فَإِنَّهُ لَمَّا كَانَ مَطْلُوبُهُ مُشَاهَدًا لَهُ، وَحَالُ مَحَبَّتِهِ وَأَحْكَامِهَا قَائِمًا بِهِ، كَانَ نَصِيبُهُ مِنَ الْأُنْسِ عَلَى قَدْرِ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ لَمَّا تَوَارَى عَنْهُ مَطْلُوبُهُ وَأَحْكَامُ مَحَبَّتِهِ اسْتَوْحَشَ لِذَلِكَ، فَتَوَلَّدَ الْحُزْنُ مِنْ تِلْكَ الْوَحْشَةِ.
وَبَعْدُ، فَالْحُزْنُ يَتَوَلَّدُ مِنْ مُفَارَقَةِ الْمَحْبُوبِ، لَيْسَ لَهُ سَبَبٌ سِوَاهُ، وَإِنْ تَوَلَّدَ مِنْ حُصُولِ مَكْرُوهٍ، فَذَلِكَ الْمَكْرُوهُ: إِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِمَا فَاتَ بِهِ مِنَ الْمَحْبُوبِ، فَلَا حُزْنَ إِذًا وَلَا هَمَّ وَلَا غَمَّ، وَلَا أَذًى وَلَا كَرْبَ إِلَّا فِي مُفَارَقَةِ الْمَحْبُوبِ، وَلِهَذَا كَانَ حُزْنُ الْفَقْرِ وَالْمَرَضِ وَالْأَلَمِ وَالْجَهْلِ وَالْخُمُولِ وَالضِّيقِ وَسُوءِ الْحَالِ وَنَحْوِ ذَلِكَ: عَلَى فِرَاقِ الْمَحْبُوبِ مِنَ الْمَالِ وَالْوَجْدِ وَالْعَافِيَةِ، وَالْعِلْمِ وَالسِّعَةِ وَحُسْنِ الْحَالِ، وَلِهَذَا جَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مُفَارَقَةَ الْمُشْتَهَيَاتِ مِنْ أَعْظَمِ الْعُقُوبَاتِ، فَقَالَ تَعَالَى: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ} فَالْفَرَحُ وَالسُّرُورُ بِالظَّفَرِ بِالْمَحْبُوبِ، وَالْهَمُّ وَالْغَمُّ وَالْحُزْنُ وَالْأَسَفُ بِفَوَاتِ الْمَحْبُوبِ، فَأَطْيَبُ الْعَيْشِ عَيْشُ الْمُحِبِّ الْوَاصِلِ إِلَى مَحْبُوبِهِ، وَأَمَرُّ الْعَيْشِ عَيْشُ مَنْ حِيلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَحْبُوبِهِ وَحِكْمَةُ قَضَاءِ اللَّهِ فِيهِ بِذَلِكَ.
وَالِاسْتِتَارُ الْمَذْكُورُ لَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَ كَشْفٍ وَعِيَانٍ، وَالرَّبُّ تَعَالَى يَسْتُرُ عَنْهُمْ مَا يَسْتُرُهُ رَحْمَةً بِهِمْ، وَلُطْفًا بِضَعِيفِهِمْ، إِذْ لَوْ دَامَ لَهُ حَالُ الْكَشْفِ لَمَحَقَهُ، بَلْ رَحْمَةٌ بِهِ مِنْ رَبِّهِ أَنْ رَدَّهُ إِلَى أَحْكَامِ الْبَشَرِيَّةِ، وَمُقْتَضَى الطَّبِيعَةِ.
وَأَيْضًا لِيَتَزَايَدَ طَلَبُهُ، وَيَقْوَى شَوْقُهُ، فَإِنَّهُ لَوْ دَامَتْ لَهُ تِلْكَ الْحَالُ لَأَلِفَهَا وَاعْتَادَهَا، وَلَمْ يَقَعْ مِنْهُ مَوْقِعَ الْمَاءِ مِنْ ذِي الْغُلَّةِ الصَّادِي، وَلَا مَوْقِعَ الْأَمْنِ مِنَ الْخَائِفِ، وَلَا مَوْقِعَ الْوِصَالِ مِنَ الْمَهْجُورِ، فَالرَّبُّ سُبْحَانَهُ وَارَاهَا عَنْهُ لِيُكْمِلَ فَرَحَهُ وَلَذَّتَهُ وَسُرُورَهُ بِهَا.
وَأَيْضًا فَلْيُعَرِّفْهُ سُبْحَانَهُ قَدْرَ نِعْمَتِهِ بِمَا أَعْطَاهُ وَخَلَعَ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ لَمَّا ذَاقَ مَرَارَةَ الْفَقْدِ عَرَفَ حَلَاوَةَ الْوُجُودِ، فَإِنَّ الْأَشْيَاءَ تَتَبَيَّنُ بِأَضْدَادِهَا.
وَأَيْضًا فَلْيُعَرِّفْهُ فَقْرَهُ وَحَاجَتَهُ وَضَرُورَتَهُ إِلَى رَبِّهِ، وَأَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَغْنٍ عَنْ فَضْلِهِ وَبِرِّهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ، وَأَنَّهُ إِنِ انْقَطَعَ عَنْهُ إِمْدَادُهُ فَسَدَ بِالْكُلِّيَّةِ.
وَأَيْضًا فَلْيُعَرِّفْهُ أَنَّ ذَلِكَ الْفَضْلَ وَالْعَطَاءَ لَيْسَ لِسَبَبٍ مِنَ الْعَبْدِ، وَأَنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ تَحْصِيلِهَا بِكَسْبٍ وَاخْتِيَارٍ، وَأَنَّهَا مُجَرَّدُ مَوْهِبَةٍ وَصَدَقَةٍ تَصَدَّقَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْهِ لَا يَبْلُغُهَا عَمَلُهُ وَلَا يَنَالُهَا سَعْيُهُ.
وَأَيْضًا فَلْيُعَرِّفْهُ عِزَّهُ فِي مَنْعِهِ، وَبِرَّهُ فِي عَطَائِهِ، وَكَرَمَهُ وَجُودَهُ فِي عَوْدِهِ عَلَيْهِ بِمَا حَجَبَ عَنْهُ، فَيَنْفَتِحُ عَلَى قَلْبِهِ مِنْ مَعْرِفَةِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ- بِسَبَبِ هَذَا الِاسْتِتَارِ وَالْكَشْفِ بَعْدَهُ- أُمُورٌ غَرِيبَةٌ عَجِيبَةٌ، يَعْرِفُهَا الذَّائِقُ لَهَا، وَيُنْكِرُهَا مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا.
وَأَيْضًا فَإِنَّ الطَّبِيعَةَ وَالنَّفَسَ لَمْ يَمُوتَا، وَلَمْ يُعْدَمَا بِالْكُلِّيَّةِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا قَامَ سُوقُ الِامْتِحَانِ وَالتَّكْلِيفِ فِي هَذَا الْعَالَمِ، بَلْ قَهْرًا بِسُلْطَانِ الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ وَالْإِيمَانِ وَالْمَحَبَّةِ، وَالْمَقْهُورُ الْمَغْلُوبُ لَا بُدَّ أَنْ يَتَحَرَّكَ أَحْيَانًا- وَإِنْ قَلَّتْ- وَلَكِنْ حَرَكَةَ أَسِيرٍ مَقْهُورٍ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ حَرَكَتُهُ حَرَكَةَ أَمِيرٍ مُسَلَّطٍ.
فَمِنْ تَمَامِ إِحْسَانِ الرَّبِّ إِلَى عَبْدِهِ، وَتَعْرِيفِهِ قَدْرَ نِعْمَتِهِ أَنْ أَرَاهُ فِي الْأَعْيَانِ مَا كَانَ حَاكِمًا عَلَيْهِ قَاهِرًا لَهُ، وَقَدْ تَقَاضَى مَا كَانَ يَتَقَاضَاهُ مِنْهُ أَوَّلًا، فَحِينَئِذٍ يَسْتَغِيثُ الْعَبْدُ بِرَبِّهِ وَوَلِيِّهِ وَمَالِكِ أَمْرِهِ كُلِّهِ: يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ، يَا مُصَرِّفَ الْقُلُوبِ صَرِّفْ قَلْبِي عَلَى طَاعَتِكَ.
وَأَيْضًا فَإِنَّهُ يُزِيلُ مِنْ قَلْبِهِ آفَةَ الرُّكُونِ إِلَى النَّفْسِ وَالْاعْتِمَادِ عَلَيْهَا نَفْسِهِ، أَوْ عَمَلِهِ أَوْ حَالِهِ، كَمَا قِيلَ: إِنْ رَكَنْتَ إِلَى الْعِلْمِ أَنْسَيْنَاكَهُ، وَإِنْ رَكَنْتَ إِلَى الْحَالِ: سَلَبْنَاكَ إِيَّاهُ، وَإِنْ رَكَنْتَ إِلَى الْمَعْرِفَةِ: حَجَبْنَاهَا عَنْكَ، وَإِنْ رَكَنْتَ إِلَى قَلْبِكَ: أَفْسَدْنَاهُ عَلَيْكَ، فَلَا يَرْكَنُ الْعَبْدُ إِلَى شَيْءٍ سِوَى اللَّهِ أَلْبَتَّةَ، وَمَتَى وَجَدَ قَلْبَهُ رُكُونًا إِلَى غَيْرِهِ: فَلْيَعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ أُحِيلَ عَلَى مُفْلِسٍ، بَلْ مُعْدَمٍ، وَأَنَّهُ قَدْ فُتِحَ لَهُ الْبَابُ مَكْرًا، فَلْيَحْذَرْ وُلُوجَهُ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.
قَوْلُهُ: وَهِيَ الظُّلْمَةُ الَّتِي قَالُوا: إِنَّهَا مَقَامٌ.
يَعْنِي: أَنَّ وَحْشَةَ الِاسْتِتَارِ ظُلْمَةٌ. وَقَدْ قَالَ قَوْمٌ: إِنَّهَا مَقَامٌ.
وَوَجْهُهُ: أَنَّ الرَّبَّ سُبْحَانَهُ يُقِيمُ عَبْدَهُ بِحِكْمَتِهِ فِيهَا، لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْحِكَمِ وَالْفَوَائِدِ، وَغَيْرِهَا مِمَّا لَمْ نَذْكُرْهُ.
فَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ تَكُونُ مَقَامًا، وَلَكِنَّ صَاحِبَ هَذَا الْمَقَامِ: أَنْفَاسُهُ أَنْفَاسُ حُزْنٍ وَأَسَفٍ، وَهَلَاكٍ وَتَلَفٍ، لِمَا حُجِبَ عَنْهُ مِنَ الْمَقَامِ الَّذِي كَانَ فِيهِ.
وَالشَّيْخُ كَأَنَّهُ لَا يَرَى ذَلِكَ مَقَامًا، فَإِنَّ الْمَقَامَاتِ هِيَ مَنَازِلُ فِي طَرِيقِ الْمَطْلُوبِ فَكُلُّ أَمْرٍ أُقِيمَ فِيهِ السَّالِكُ مِنْ حَالِهِ الَّذِي يُقَدِّمُهُ إِلَى مَطْلُوبِهِ: فَهُوَ مَقَامٌ، وَأَمَّا وَحْشَةُ الِاسْتِتَارِ: فَهِيَ تَأَخُّرٌ فِي الْحَقِيقَةِ لَا تَقَدُّمٌ، فَكَيْفَ تُسَمَّى مَقَامًا؟ بَلْ هِيَ ضِدُّ الْمَقَامِ.
وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ وَحْشَةَ الِاسْتِتَارِ لَيْسَتْ مَقَامًا: أَنَّ كُلَّ مَقَامٍ فَهُوَ تَعَلُّقٌ بِالْحَقِّ سُبْحَانَهُ عَلَى وَجْهِ الثُّبُوتِ، وَحَقِيقَتُهُ: بِأَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ بِالْمُقِيمِ لَا بِالْمَقَامِ.
وَأَمَّا حَالُ الِاسْتِتَارِ: فَهُوَ حَالُ انْقِطَاعٍ عَنْ ذَلِكَ التَّعَلُّقِ الْمَذْكُورِ.
وَالتَّحْقِيقُ فِي ذَلِكَ: أَنَّ لَهُ وَجْهَيْنِ؛ هُوَ مِنْ أَحَدِهِمَا: ظُلْمَةٌ وَوَحْشَةٌ. وَمِنَ الثَّانِي: مَقَامٌ، فَهُوَ بِاعْتِبَارِ الْحَالِ وَبِاعْتِبَارِ نَفْسِهِ لَيْسَ مَقَامًا، وَبِاعْتِبَارِ الْمَآلِ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ وَمَا فِيهِ مِنْ تِلْكَ الْحِكَمِ وَالْفَوَائِدِ الْمَذْكُورَةِ: فَهُوَ مَقَامٌ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.